Site icon العربي الموحد الإخبارية

قراءة في رواية (الموتى يُلقونَ النُكات)

موسى الزعيم/

تسلّط رواية  “الموتى يلقون النكات”  للصحفي السوري حسين الزعبي، الضوءَ على سنوات مفصليّه من تاريخ سوريا المعاصر، تطرح الرواية أسئلة كثيرةً وشاغلةً حتى الوقت الحالي.

من هذه الأسئلة مثلاً ما جدوى العمل الصحفي في بلدٍ مَحكوم بإطار سلطويّ؟  منافذ الإعلام فيه مُصادرة  لدى فئة ً قليلة.

تطرح الرواية سؤال تداعيات الثورة على النظام، والتي طالت الجغرافيا السورية، بما تحمله من أوجاع وانكسارات، وما رافق ذلك من نزوح ولجوء.

وما جدوى وسائل التواصل الاجتماعي، ودورها في الثورة، ماذا لو أنّها كانت موجودة في الارهاصات الأولى، عبر حوادث معيّنة وثّقتها الرواية حدثت في جنوب وسوريا وشرقها في منتصفها، أيام أوجاع الثمانينات؟

تتساءل الرواية عن  إرادة الحلّ الدولي والتي كانت حاضرةً وسريعةً في ليبيا وغيرها.. لماذا أدارتْ وجهها عن مأساة الشعب السوري؟

من خلال عالم الصّحافة، يطلّ الروائي على دمشق، بعين راصدة تغوص في الحواري الفقيرة، تدخل دهاليز المجلات والصحف التي تؤدي دورها، في كلّ شيء عدا المصداقيّة الإعلامية، من هذه الزاوية يطلّ الراوي “فراس” على عالم الثورة، وما رافقها من تداعيات.

ينحاز الروائي السوري حسين الزعبي  إلى مجتمع العشوائيات والهوامش حول دمشق، هذا المجتمع الفقير الذي بات يحوي جميع أطياف الشعب السوري ومن كافة المناطق.

نظرياً عالجت الرواية عبر 237 صفحة ثلاثة مراحل من تاريخ سوريا الحديثة وهي: ما قبل الثورة السورية، والثورة السورية في مرحلة البدايات، ثم الحرب و تبعاتها، من حالة لجوء في دول الجوار وأوربا.

وعبر أمكنةٍ متعددةٍ، كانت الرواية مسرحاً لأحداثها ” دمشق ولبنان ومصر وأوربا”

تتطرق الرواية لحالة بعض الأشخاص الذين شاركوا في الثورة، من خلال الأسباب التي مهّدت لها من وجهة نظر صحفيين شابين ” أصلان وجلال” اللذان كانا يبحثان عن فرصة عمل في الصحافة في دمشق. فتتكشف لهم بعض خبايا هذه المهنة والتي من المفترض أن تكون عين الحقيقة.

فتسلط الرواية الضوء على تجار الصحافة، وعلى التركيبة الإعلامية  في التلفزيون والصحف الرسمية، إذ صارت  الوجوه الإعلاميّة حكراً على العائلات النافذة والتي هي من لونٍ واحدٍ ومن صوت واحدٍ، ولا يقبل أي صوتٍ آخر يغرّد خارج السرب السلطويّ، هذه الماكينة الإعلامية؛ دأبت دائماً على رسم سياسة الإعلام وتصوير الواقع من وجهة نظرٍ واحدةٍ، وما عداها خيانة.

حتى ولو كانت هذه الصحافة اقتصادية أو ثقافية فهي في الغالب واجهة اجتماعية يتسلم إدارتها عادة نساء الضباط النافذين أو ذويهم.

“الصحفي” أصلان يعمل في مجلة اقتصادية، تديرها “سميحة” زوجة أحد الضباط من الأقلية الحاكمة، بينما نزار مدير مجلة أخرى، فهو متملّق يُحاول دائماً ابتزاز التجار من خلال تسليط الضوء عليهم، وبالتالي كان الكثير منهم من يشتري صوت ولسان نزار.  

هذه الصحافة “الخاصة” كانت أداة لابتزاز الفئات الوسطى من رجال الأعمال والتجار الذين يعنون بالدرجة الأولى بسلامة مصالحهم بعيداً عن دوائر السلطة السّامة، أوهم مضطرون لشراكة أحد أفرادها كواجهة دعم وحماية لها.

طبقات السرد في الرواية

على صفحات الرواية تتناوب الشخصيات في سرد أحداث مرّت معها أو كانت على صلة بها، إلا أن ذلك كلّه يصبّ في مُجرى واحد ينبع من الأحداث السورية وما تبعها من ارتدادات أو كما اصطلح عليه الزلزال السوري.

في المتن: فراس مُصاب بالسرطان، وقد وصل إلى فرنسا لاجئاً مثقلاً بحمولة الذاكرة المتعبة، وبناءً على طلب “صوفي”  المرأة الفرنسية والتي لا تتقن العربية، عليه أن يفرغ ذاكرته ويكتب لها ما مرّ به من خبرات وتجارب أن يكتب لها عن وطنه وذكرياته فيه.

تحاول صوفي عن طريق “مترجم جوجل” في الحاسوب أن تشكّل صورة واقعيّة تقارب فيها الأحداث وتفهمها من مصدرها فراس، صوفي  اعتمدت طريقة ” العلاج بالكتابة ” أو تفريغ الذاكرة من حمولة القهر الوجع وهي تقنية باتت معتمدة في الطبّ النفسي والعلاجي.

 فراس الذي يعيش الغربة والوحدة والمرض، انكسار أحلامه وخيباته المتراكمة، عاشها على مدى سنوات قبل الثورة وخلالها ومرحلة النزوح، هل كان سرطان فراس هو العطبْ الذي أصاب الثورة، وسرده عن ذاته ما هو إلاّ توثيق لهذه الانكسارات؟.

ينطلق فراس في بداية الرواية من مقولة جعلها المعادل السردّي للعنوان، بحيثُ يثير القارئ كلما ازداد توغلاً في متاهات النص عبر صفحات الرواية ليتساءل كل مرة هل يلقى الأموات النكات  فعلاً؟

يقول فراس لصوفي: ” أنتِ من شعب يجيد الضحك على الرغم من تذمره، أمّا نحن فربما نجيد إلقاء النكات، ولكن وجوهنا ما عادت قادرة على الضحك، نتصنّع الضحك وكأننا موتى يسمعون النكات من موتى “

فراس الذي  أفرد مساحة للبوح والسرد لشخصيتي هند ونايا المرأتان السوريتان اللتان تسكنان معا في شقة واحدة في مصر.

نايا الطبيبة النفسية والتي تحكي عن الكثير من خبرتها في عملها والآن تبحث عن وجودها في القاهرة وقد خلعت زوجها بسبب موقفه المتردد من الثورة ووقعت في غرام الصحفي أصلان.  

“هند ونايا” ترويان أحداثا مختلفة مرتا بهما في سورية قبل الثورة وبعدها، وبذلك تحيلان السرد إلى مناطق ووجهات بعيدة وشخصيات أخرى، يبتعد السرد قليلاً ثم تعود الخيوط من جديد ليد هند ونايا ولتصب عند السارد الأول فراس ليرسلها إلى حاسوب صوفي التي تترجم أوّل بأوّل.

حيثُ تشكل صوفي المتلقّي السلبي في الرواية، والذي  يكتب فراس من خلاله ولأجله، وقد بدت عبر صفحات الرواية مستمعاً  واعياً أحياناً كانت تحرّك الأحداث الراكدة، فتدفع فراس لمزيد من الكتابة.

وهو بدوره يريد أن يضعها بصورة الأحداث الحقيقية لمعاناة بَشرٍ تُهمتهم الأولى والأخيرة رفض نظام قمعي، يقوم على القهر والظلم وإذلال أبناء شعبه لأنهم تجرؤوا وطالبوه بالحرية والعدالة.

في الرواية يجد القارئ نفسه أمام رواية، داخل رواية، وكلّ فردٍ فيها يُحاول تبرئة ذمته من أوجاعه، يغسل روحه، بما علق بها وفي المحصلّة يُسدد الثمن.

تنقّلات السرد ووجع الأمكنة

تجري أحداث الرواية في أمكنة ارتبطت بها ذاكرة الراوي فراس شخصيات أخرى  راحت تروي أحداثاً تتصل بها، هذه الأحداث كانت على شكل سلسلة متتابعة.

كانت البدايات في العشوائيات وهي السور البشريّ الفقير المحيط بدمشق، وهي الخزان البشريّ القابل للانفجار في أيّة لحظة. تسترجع ذاكرة فراس حارات حيّ التضامن والتي بالكاد تكون صالحة للعيش البشري الكتابات على الجدران وأصوات الباعة، وبائعات الهوى الجُدد.

يدّون فراس تفاصيل هذا الواقع من خلال سكنه في تلك العشوائيات على لسان أصلان الصحفي الذي عملَ في مستودع بعد أن تخرّج من قسم الإعلام في جامعة دمشق.

بعد ذلك ليحصل على فرصة عمل لكنها مرهونة ببذل ماء الوجه والكرامة، تتوسع دائرة الوصف المكاني لدمشق التي عبثت بها يد السلطة في الخفاء فغيرت معالمها الحضارية التي ترتبط بشخصية (ما) أو موقف مشّرف.. بل وتدخلت أحياناً لتشويه بعض هذه المعالم، كحال ساحة المرجة، التي كانت رمزاً لكلّ المناضلين الأحرار الذين أعدمتهم السلطة العثمانية، ليتحول المكان المحيط بالنصب التذكاري في ساحة المرجة، إلى فنادق تمارسُ فيها الدعارة.

ترصد ذاكرة فراس الحراك السياسي المرافق لوفاة حافظ الأسد وحراك الإسلاميين والماركسيين في تلك المرحلة وما بعدها فهو حسب قوله ” معني بطريقة أو بأخرى بحديث البدايات والخواتيم” وما بينها، مأساة شعب تحكمه طغمة تسلطت على مقاليد أموره وعززت الحالة الطائفية، من خلال طبقات مخفيّة حيناً وبصورة صارخة فجّة في غالب الأحيان.

يربط فراس أحداث حيّ “الحريقة” الدمشقي في بداية الثورة بأحداث مشابهة حدثت عام 1925 في دمشق لينتقل بعدها شارحاً  لصوفي أن أحداثا مشابهة أيضاً بدأت في تونس  قبل دمشق مع بداية أحداث الربيع العربي.

تخوض الرواية في الذهنية المكانيّة السورية والتراكمات  المشوهة عن معرفة الآخر” السوري” ليصل السارد إلى معادلة مفادها أن السوري لا يعرف عن السوري الآخر إلا ما يرتبط أما يَعلق بذاكرته المكانيّة من تصورات مناطقية ضيقة “فلا يعرف الدمشقي عن الدرعاوي سوى أنه بدويّ ولا يعرف الحلبي عن الديريّ سوى أنه شاوي ..” هي ترسبات ذهنية لم تفلح التربية على مدى نصف قرن من التدخل فيها وحرفها ولربما للنظام مصلحة في تلك التقسيمات السورية الكنتونية.

هذه التصنيفات ساهمت بخنق الثورة، بقصد وبغير قصد.

شخصيات وعذابات  

تغوص الرواية أحياناً في أعماق شخصياتها، هذه الشخصيات بدت أغلبها وقد أصابها المسّ السوري، فبدت مكسورةً بطريقة أو بأخرى، تبحث عن خلاصها، عن جدوى وجود بشكل عام.

تتداول الرؤى والأفكار تقلّب المواقف من الثورة بين مقتنعٍ تبنى موقفها وسوغ لها المبررات مباشرة ورأى أنها نتيجة حتمية كان يجبُ أن تحدث منذ زمن بعيد على الأقل قبل خمسين عاماً، هذه الشخصيات دفعت ثمناً غالياً من عذاباتها، كما حدث للطبيب نادر الذي اعتقل فتركته زوجته وسافرت مع ابنها يوسف إلى فرنسا. ومنهم من انحاز للنظام وامتهن التشبيح، وبعضهم شكّل حالة ارتزاق في حالة الفوضى السائدة.

“نايا” رأت أن الرئيس هو الضامن الرئيس للبلد، لأنّه حارب إسرائيل، وإقصاؤه عن الساحة يعني اِقصاء حالة من حالات المقاومة، لكنها وجدت نفسها تنسجم مع طروحات الثوار.

فعدّلت موقفها، على العموم هذه الشخصيات بدأت تستشعر جدوى الحوار مع الآخر وإعادة منهجية تفكيرها بما ينسجم مع الواقع.

كذلك تأتي الرواية كشهادة توثيقية على حالات الاعتقال والتعذيب والتهجير القسري التي حدثت في بدايات الثورة من خلال شخصية “منار وأحمد” الشابان الصغيران طالبا الثانوية، يأتي قتلُ منار في المعتقل هو قتل لأحلام الشباب،  كذلك ترصد الرواية واقع التعذيب داخل المعتقلات، ومن ثم المتاجرة بالمعتقلين وجثثهم ” كما كان يطمح رئيس فرع  الأمن” في قبضِ مبلغ لا بأس به لقاء الإفراج عن ” أحمد ومنار” .

لم تغفل الرواية عن قضايا كانت شاغلة في تلك الفترة، إذ نشط دور كتّاب التقارير والوشاة، راجت بضاعتهم إبّان الثورة، كذلك الخطف والاعتقال بدعوى الإرهاب والتنظيمات المشبوهة والتي راحت تولد لدى الناس ” متوالية الاحتمالات الدموية”.

يغدو خلاص الهجرة هو الخلاص المنشود لأغلب الشخصيات والتي صارت تنحدر نحو مصيرها، فكان الموت والاعتقال نصيب عددٍ لا بأس به من هذه الشخصيات.

نادر يموت بقذيفة، بينما نايا تعود إلى دمشق، ويتم اعتقالها في حين أن مالك الذي أصيب بشظيّة يتم علاجه في تركيا ثم يهاجر إلى برلين  لينتهي به الحال إلى الإدمان، بينما فراس يُقدِم على الخطوة التي كان قد تهيب منها عندما وقف يوماً على حافة النيل، فتضيق مساحة الأمل على صفحات الرواية حتى تكاد تتلاشى.

من زاوية أخرى، تتطرق الرواية إلى قضايا في غاية الأهمية وهي الجالية العربية في أوروبا، إذ يرى فراس من خلال الأحداث التي مرّت في باريس ” حسب حديث صوفي ” أن الجيل الأول لا مشكلة له مع الاندماج وتقبّل الحياة الجديدة في أوربا بينما الجيل الثاني بدأ مرحلة الرفض والبحث عن هويته، بين أن يكون أوربياً أو عربيا مسلما وبالتالي ترى أن “يوسف” ترك فرنسا دون علم أمه وراح يبحث عن أبيه نادر في لبنان.

تأتي رواية الموتى يلقون النكات كعملٍ أدبي وكوثيقة سرديّة موازية للوثيقة التاريخية عن أحداث الجرح السوري الذي مازال مفتوحاً ونازفاً إلى اليوم.

جاءت لغة الروية بسيطة واضحة دون تكلّف أو تقعر، تقترب من اللغة اليومية هي لغة الشخصيات الحقيقية والتي استطاع الروائي أن يجعلها من لحمٍ ودمٍ تنطق باسم كلّ السوريين على اختلاف مشاربهم ومعاناتهم.

رواية الموتى يلقون النكات رواية زاخرة بألم ووجع الشعب السوري في أرضه وفي بلاد النزوح، وهي عمل أدبي توثيقي يضاف إلى سلسة الأعمال الأدبية التي عملت على تخليد المأساة السورية المعاصرة.

 *يذكر أنّ الرواية صدرت عن دار موزاييك للطباعة والنشر عام 2022

.

أخبار متنوعةلماذا يستعيرُ الألمان لسانَنا ؟أوراق طبيب سودانيّ مُقيم في برلينرواية  اسمي زيزفونجسور متأرجحةحين يَغمره الفرح مُتأخراًإشكاليّة التوثيق الحكائيّ والتصنيف الأدبيّ في رواية “رغيف التنّور” لـ “نزيه مير علي”” وشمسٌ أطلّت على ديارنا الغريبة”

Exit mobile version