Site icon العربي الموحد الإخبارية

كتابُ “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي

يَصدرُ مُترجماً إلى اللغة الألمانيّة

موسى الزعيم /

 تبدو عبقريّة عبد الرحمن الكواكبي من خلال فِكره الخالد، والذي تتعددُ قراءاتهُ بتعددِ مُشكلات الواقع وتجددها وخاصة فيما يطرحهُ من قضايا في كتابه المعروف “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” والذي صدر عام 1902. يرسم الرجل طريقاً صريحاً وواضحاً لأمتهِ تستطيعُ من خلاله تجاوز الأزمات والخروج منها ومن خلال تشريح المشكلات المتجذّرة فيها، والتي مازلنا ندور في أتونّها، نعرفها، لكننا نتعامى عنها.

هذه المشكلات وإن اختلفت المعطيات والظروف تأتي كنتائج لواقع مُشابه يتكررُ مع اختلاف الزمن، ورأس الهرم فيها الاستبداد.

في ألمانيا صدرَ مؤخراً كتابً طبائع الاستبداد مترجماً إلى اللغة الألمانية عن دار (LIT) للطباعة والنشر. وقد قام بترجمتهِ وتحقيقه باللغة الألمانية الدكتور عماد العلي، وهي بالتأكيد خطوةٌ لها أهميتها إذ تشكل تحولاً في نوعيّة الكتب المترجمة من العربية إلى الألمانية، إذ يركز المترجمون عادة على كتب الأدب وخاصّة الرواية، أما كتب الفكر العربي فكانت الترجمات تأتي على شكلِ مقتطفات أو مشاريع بحثيّة كما حدث مع الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم.  

والدكتور عماد العلي من مواليد سوريا درس الأدب الإنكليزي والأدب الألماني والعلوم السياسية، وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الألماني من جامعة لايبزج عن موضوع “الخطاب الإنساني في مسرح ما بعد الحرب العالمية الثانية. عن إسهام بعض المسرحيين المنسيين في إعادة تكوين الإنسان المكسور”، وحصل على الماجستير في العلوم السياسية في جامعة لايبزيغ وتناولت في أطروحته موضوع “الجماعات الإسلاميّة السوريّة ما بين التوجه إلى الدولة الوطنية والدولة الإسلامية”، وله أبحاث ومشاريع علمية في مجالات الأدب السياسي والفكر السياسي وتاريخ الأفكار.

قدّم للكتاب المفكّر الألماني المعروف أودو شتاين باخ وهو المشجّع الأوّل على ترجمته ومعروف أن شتاين باخ متخصصٌ في قضايا الفكر والسياسة والثقافة العربية.

حاورتُ الدكتور عماد في أهميّة ترجمة هكذا كتاب وظروف الترجمة وغير ذلك من القضايا وتوجهت إليه بالأسئلة التالية. 

ما الدافع الذي جعلك تتجه لترجمة الكتاب إلى اللغة الألمانية؟ أو بمعنى أخر، ما الذي جعلك تختار كتاب الكواكبي عن سواه من الكتب العربيّة الفكريّة والسياسية في وقتنا الرّاهن؟

الفكرُ السياسيّ والاجتماعي هو منارة المُجتمعات الإنسانيّة، فالحداثة والتمدّن والتحضر والصعود الثقافي والتقدّم لعلمي والتقني هي كلّها عوامل مرتبطة بالمستوى الذي وصله الفكر السياسي في مجتمع ما، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة العصر الذي نعيشهُ، والذي فرضت فيه السياسة نفسها كمُنظّم للعلاقات الاجتماعية المُختلفة، بما فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم. هكذا أصبحت السياسة قدراً محتّماً على جميع شعوب الأرض، ومن هنا جاءت فكرة الدولة الحديثة من رحم هذا التطوّر الإنساني وخاصّة في الغرب. والقصد من طرحي لهذه النقطة هو الإشارة إلى أن نوعيّة السياسة السائدة في مجتمع ما هي التي تُحدد أفقَ الرقيّ للمجتمع، فإذا كانت السياسة هدّامة وقاهرة وسلبية، يؤدي ذلك إلى تقهقر الوعي السياسي والاجتماعي عند الأفراد، وهذا يقود حتماً إلى النكوص الحضاريّ وتراجع مستوى المجتمع بصورةٍ عامّة، وهذا هو الحال في العالم العربي منذ عقود وحتى اليوم. ومن هنا، فإنّ ما يميز الكاتب عبد الرحمن الكواكبي هو وعيه العميق بهذه الإشكاليّة في وقت كانت التحديات الداخلية والخارجية تعصف بالعرب والدولة العثمانية آنذاك من كلّ حدبٍ وصوبٍ.

هل تقصد بذلكَ تركيز الكواكبي على “الاستبداد السياسيّ” كأصلٍ لمختلف مشاكل المجتمع؟

لم يتوقّف الكواكبي عند نقطة التنبيه لوجود مشاكل في النظام السياسي في الدولة، إنما ذهب أيضاً لتحليل أسباب هذه المشاكل وتشخيص تأثيرها على الحاضر والمستقبل. وانطلاقاً من ذلك يؤكّد الكواكبي أنّ “أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية” ويدعو إلى ضرورة تبنّي العقلانية للتخلص من الاستبداد والبربرية السياسية. وكما ينتقد الكواكبي الحاكم المُستبد، ينتقد أيضاً وبحدّة الفرد الجاهز للتخلّي عن مبادئه الأخلاقية في سبيل التقرب من السلطان للحصول على المناصب أو كسب الامتيازات، كما ينتقد بشدّة أكبر من يسمّيه “أسير الاستبداد” لأنّه سكت عن أعمال المستبد ومظاهر الاستبداد ورضي أن يكون عبداً ذليلاً للسلطان الجائر من أجل الحفاظ على حياته، بدلاً من مواجهة الاستعباد والانتفاضة من أجل استعادة كرامته الإنسانية. وهنا يؤكد الكواكبي أنّ الحياة من دون حريّة وكرامة هي حياة بلا قيمة، ولذلك يُشدد على أنّ “المُستبد لا يخرج قط عن أنّه خائنٌ خائفٌ مُحتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوصٍ: رئيس وأعوان.”!

يمكنني إذاً الافتراض أنّ محتوى الكتاب، أي الاستبداد ووسائل التخلص منه، وعلاقة هذا الموضوع بالواقع العربي الحالي هو ما دفعك لترجمته.

نعم، هذا صحيح. وبدقّة أكبر، يمكنني ذكر ثلاثة دوافع أساسية: الدافعُ الأول هو في الحقيقة قناعتي الشخصيّة بصحّة ومنطقيّة الكثير من أفكار الكواكبي وتحليلاته، مع اعتقادي بأنّ بعض الأفكار في الكتاب تحتاج لمزيدٍ من التأصيل والشرح والتوضيح. الدافع الثاني هو الرابط بين أفكار الكواكبي وواقعنا الحالي كمجتمعاتٍ عربيّة تعاني من أزمات ومشاكل سياسية اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة، وما أحداثُ الربيع العربي إلاّ نتيجةٌ واقعيّة لهذه الأزمات المُتراكمة. عندما يقول الكواكبي إنّه لا نهضة لأمّة من دون القضاء على الاستبداد من جذوره، فإنّه يخاطب الإنسان العربي اليوم ويضع أمامه خارطة طريق للوصول للهدف، أي “الترقي”. أمّا الدافع الثالث فكان غايتي في نقلِ مادّة فكريّة عربيّة تنويريّة إلى القارئ الألمانيّ خصوصاً والأوروبيّ عموماً، وذلك بهدف تعريفهم بنموذج من نماذجِ الفكر السياسيّ من خارج الإطار الأوروبي والغربي. ما أريد قوله وما أردت إيصاله للقارئ الألماني هو أننا كمجتمعاتٍ وشعوب عربية ترزح تحت نير الاستبداد والظلم والهمجيّة منذ سنوات طويلة، لكن هذا الاستبداد لا يعكس عمق الثقافة العربية والإسلامية التي أنتجت فِكراً نهضوياً أصيلاً، لكن الظروف التاريخية لم تسعف هذا الفكر في فرضِ نفسه واقعياً للأسف.  

كلامك يثير لديّ السؤال عن وجهة نظرك تجاه مسألةٍ ذاتِ أهميّة والتي تتعلق بتقييمك للمستوى الذي وصلت إليه حركة الترجمة من العربية إلى الألمانية.

لا شكّ أنّ الترجمة تمثل نافذةً معرفيّة وقناة اتصال إنسانيّة بين الثقافات المُختلفة، وأسهمت الترجمة في خلق إطارٍ جديدٍ من العلاقات بين الشعوب والمجتمعات حول العالم. لكن عندما يتعلّق الأمر بحركة الترجمة بين اللغتين العربيّة والألمانيّة، فيمكن ملاحظة حالة عدم التوازن في ميزان هذه الحركة، حيث تميل الكفّة وبوضوح لصالح الترجمة من الألمانية للعربية. لا أعرف السببَ الدقيق وراء ذلك، مع اعتقادي في الوقت ذاته أنّ النشاط في الجانب الألماني يقع بالمستوى الأكبر على المجال الفني الأدبي نظراً لوجود مترجمين متخصصين وأكفاء، وهذا أمر مهم وينبغي دعمه. وفي المقابل، نلحظ ما يشبه الجفاف – إن صح التعبير – في ترجمة الأعمال الفكرية العربية إلى الألمانية، وهذا يعرقل من وجهة نظري آفاق تعزيز الحوار بين الثقافتين ولا يدعم التفاعل الفكري بينهما. إنني على قناعة تامة، وهذا يتوافق مع قناعة الكثيرين من العاملين والباحثين في حقل الفكر وتاريخ الأفكار السياسية (Politische Ideengeschichte)، إنّ معرفة خواصّ وسمات الفكر السياسي لثقافةٍ ما، هو شرط لمعرفة هذهِ الثقافة واستشراف واقعها وحاضرها ومستقبلها. ومن هنا جاءت ترجمة كتاب الكواكبي لتُسهم بشكلٍ ما في تقليص الفجوة بين الثقافتين العربيّة والألمانيّة وليكون الكتاب مادّة يمكن مقارنتها مع ما كتبه المفكرون الألمان والغربيون في موضوع الاستبداد السياسي وتأثيراته على الفرد والمجتمع والثقافة.  

بالإضافة لترجمتك لكتاب طبائع الاستبداد، قدّمتَ دراسةً في فكر الكواكبي، أرفقتها مع الكتاب، على ماذا ركزتْ هذه الدراسة، وما هي الغاية من ذلك؟

لو أنّ عملي اقتصر على مجرّد ترجمة كتاب الكواكبي، لاعتبرتُ عملي ناقصاً، لأنّ الغاية ليست ترجمة العمل فقط، وإنما التعريف بالكتاب، وما الترجمة إلاّ وسيلة لتحقيق هذه الغاية. ولذلك، كان من المهم كتابةُ تعليقي على متن الكتاب والذي أصنّفه على أنّه دراسة عن الفكر السياسي للكواكبي في سياقه التاريخي وارتباطاته بالواقع الحاضر. وتأتي أهميّة هذه الدراسة من وجهين: أولاً من أجل تعريف القارئ الألماني بالمواضيع المحوريّة التي ركز عليها الكواكبي مثل مفاهيم “الشورى الدستوريّة” و”الإسلاميّة” والتصوّر الذي يقدّمه عن العلاقة بين الإسلام والدولة والموقف من العلمانيّة، وثانياً من أجل مناقشة أفكار الكواكبي باستخدام منهجيّةٍ علميّةٍ موضوعيةٍ وبعيداً عن الايديولوجيا السياسية والفكرية، ونحن نعلم أن هناك من يعتبر الكواكبي قومياً أو عروبياً أو إسلامياً أو علمانياً وما إلى ذلك، إلاّ أنّ من يقرأ فكره بدقّة وموضوعيّة سيصل إلى النتيجة التي أكدتها في دراستي وهي أنّ فكر الكواكبي لا يقبل أيّ تصنيفٍ ايديولوجي ثابت.

علاوةً على ذلك، كان لا بدّ من بحث الروابط المُختلفة بين فكر الكواكبي والتحوّلات السياسيّة والاجتماعية في العالم العربي منذ انطلاقة الربيع العربي نهاية عام 2010. وكما أشرت للتو، فإنّ عمل الكواكبي هو استشراف دقيق للوضع العربي الراهن على الرغم من تعقيداته، لأن الوباء السياسي الذي عانى منه الكواكبي وعصره هو الوباء ذاته الذي نعاني منه نحن اليوم، أي الاستبداد والديكتاتورية والتعسف.   

من المعروف أنّ الترجمة ليست مجرد نقل مفردات من لغة إلى لغة ثانية، إنما عملية بالغة الدقّة والصعوبة، ما هي أهم الصعوبات التي واجهتك خلال الترجمة؟

على الرغم من دراستي للغة والأدب الألماني، إلاّ أنني لست مترجماً كمهنةٍ. ومع ذلك، كانت لديّ الثقة الكاملة بنفسي لإنجاز ترجمة عمل الكواكبي. بالفعل، واجهت العديد من الصعوبات وفي مقدمتها الأسلوب اللغوي والبلاغي عالي المستوى الذي يستخدمه الكواكبي، وهو الأسلوب الذي يميز الكتابات العربية الفلسفيّة والتقليدية. وكنت مجبراً هنا على إيجاد نوع من التوازن بين الحفاظ على أسلوب الكاتب من ناحية وعلى نقلها بشكلٍ يمكن فهمه من المتلقي الألمانيّ، من ناحية ثانية. هناك مشكلة أخرى واجهتها تتعلق باستخدام الكواكبي للكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة أو أقوال أهل الأثر في سياق شرحه لأفكاره. لا يمثل ذلك مشكلة كبيرة بالنسبة لنا كعرب أو مسلمين، لكن الأمر مختلف تماماً بالنسبة للمتلقي الألماني الذي لا يعرف شيئاً عن هذه الآيات والأحاديث، وبالتالي كان لا بدّ من توضيحها وشرح سياقها ومعانيها للقارئ الألماني. هذه بعض الصعوبات التي واجهتها فقط، لكنني أنسى كلّ التعب والعناء الذي عشته على مدى عدّة سنوات عندما أفكر أنّ هذه الترجمة قد تكون سبباً في تعريف المجتمع الألماني والمجتمعات الناطقة بالألمانية بمعاناة الشعوب العربية من “آفة الاستبداد” كما يسميها الكواكبي.

يدعو كلامك للتفاؤل حقاً، ومع ذلك أودّ سؤالك عن توقعاتك حول إمكانية أن يصل الكتاب إلى المكتبة الألمانيّة وإلى شريحة واسعة من القراء. ما رأيك بذلك؟

التفاؤل هو ما يجعل لحياتنا قيمة، وما يساعدنا على تحمّل آلامها وقسوتها. إذا فقدنا الأمل والتفاؤل، سنفقد كلّ شيء، والتفاؤل يكون محموداً فقط إذا ما كان مقروناً بالعمل. وبالنسبة لتوقعاتي حول انتشار كتاب الكواكبي في ألمانيا، فإنّها توقعات مرتفعة، ولهذه التفاؤل أسبابه الواقعية. فمن يقرؤون الكواكبي وأعمال غيره من المفكرين العرب في ألمانيا هم بالدرجة الأولى المتخصصون في الدراسات الشرقيّة والإسلاميّة، نسبة منهم تقرأ باللغة العربية، بينما تعتمد الغالبية على مراجع أو دراسات حول هؤلاء المفكرين وخاصة المراجع باللغتين الانكليزية والفرنسية.

 من وجهة نظري، يمثل ذلك إشكاليةً كبيرةً لأنّه ينبغي دائماً التحقق فيما إذا كانت هذه المراجع قد نقلت أفكار وطروحات المفكرين العرب كما هي في نصوصهم الأصلية، بصورة موضوعيّة ومصداقيّة. ولذلك، فإن للقارئ الألماني، المتخصص أو غير المتخصص، مصلحة في قراءة الأفكار من مصادرها مباشرةً، وهذا ما توفره الآن ترجمة كتاب الكواكبي. عندما تواصلت مع البروفيسور اودو شتاين باخ وسألته عن إمكانية كتابة مقدمة تعريفيّة عن الكتاب وهو يعرف تماماً قيمة الكواكبي في الفكر العربي، لم يتردد أبداً في الموافقة، وذلك إدراكاً منه للقيمة المعرفية للكتاب وحاجة المكتبة الألمانية لهكذا كُتب.

وهنا أتوجّه له ولكلّ من ساندني بالشكر من أعماق قلبي.  

* الدكتور عماد العلي باحث ومترجم سوري مقيم في برلين

Exit mobile version