Site icon العربي الموحد الإخبارية

سُلالةُ العَجاج وسمُ البدو وأنا

 النّهايات والسّاعات الإضافيّة

موسى الزعيم /

هو عنوان الكتاب الذي صدرَ مؤخراً للشاعر والناقد السوري محمد المطرود .

يقعُ الكتاب في مئتي صفحةٍ تقريباً، يشتغل المطرد في كتابهِ الجديدِ على لغةٍ نصيّة مكثّفة مشبعةٍ بالصور والتأويلات، حافلةٍ بالدلالات والاقتباسات، هذه اللغة والتي نجح الكاتب في أن تكون وسماً خاصاً به من حيث الصياغة و السبك ولتكون حمّالة لسرديّات البيئة التي انحدرت منها وفي أدقّ جزيئات القصص وحكايات الاقتتال القبلي والعشائري والثأر في تلك المنطقة، والتي شكلت مثلثاً جغرافياً بين ثلاث دول هي سوريا والعراق وتركيا، وانعكاس ذلك كلّه على الواقع والحاضر ورصد خرابه السياسي والعسكريّ و بسردٍ بعيدٍ عن رتابة التأريخ وحَرفيّة النقل والتوثيق.

في الكتاب يسعى الكاتب إلى جمع تلك ” الشذرات” الحكائيّة والتي حفلتْ بها المنطقة ليشكّل منها عقد حكايةٍ واحدةٍ وبالتالي “ليعيد انتاج المهدور والمصروف بعدمِ الاهتمام والخوف من تحريكهِ” حسب مقولة السارد.

في سلالة العجاج يسير محمد المطرود على خطّ أبداعي عرفه أتقن تهذيبه على يديه، بدأ يبكر ليغدو عالماً سردياً خاصاً به، كانت قد اتضّحت ملامحه في كتابه السابق (آلام ذئب الجنوب) واليوم يصير النص أكثر ايناعاً وإثماراً ولنقل أكثر مرونة وطواعيّة في القراءة والصعود في معارجه.

وهو ينطلقُ من مسؤوليته تجاه مكانٍ غنّيّ بخرافاته وحكاياته، مكان له خصوصيته وواقعتيه السحريّة، من هنا يرى نفسه ككاتبٍ معنيّ بالتوثيق الحكائي، لإعادة إنتاج أدبٍ يخصّ هذهِ البقعة، يرى نفسه متفائلا “.. كأوّل المبشرين بميلادٍ أدب يخصّ شمال شرق البلاد“

تسير أحداث الكتاب وفقَ خطين دراميين، تتقاطعُ معهما خطوط وأحدث أخرى ترفد نهر الحكاية.  

الأوّل حكاية “هدّار وسم البدو الضاربة في تاريخ تلك المنطقة، وهي قصّة حبّ تنتهي بالقتل، والثاني قصّة السارد أو المؤلف الذي يجد في نفسه قريناً لبطل قصتهِ أو امتداداً بيولوجيا لسيرته، وهو بهذه المزاوجة بين الشخصيتين يتنقّل بقصصه ومروياته بين عالمين: بدويّ محكوم بالغبار والتاريخ الشفهيّ لأناسٍ لهم خصوصيتهم، وحضريّ يتمثّل في الانتقال الصارخ إلى أرض مُغايرةٍ بطبيعتها ولغة أهلها وثقافتهم.”

بالعودة إلى الخطّ الأول هو حكاية هدّار وسم البدو وترف، هي سرديّة حبّ عرفتها الجزيرة السورية لها نهايتها المأساوية، فهدّار الذي تربطه قصة حبّ بـ ترف المرأة التي “.. هي إحدى علامات جمال البدو الفارقة وأحدى بناته المميزات بلا منافس”

بين سيرة انتقام أل البلاّش من هدّار وأخذهم بثأرهم منه وقتل ترف ” والعربي يأخذ بثأره ولو بعد أربعين عاما”..

منذُ الطفولة المبكّرة تعي ذاكرة السارد تلك الأحداث، فيدور في تفاصيلها، يسترجع ما ارتبط بها من اقتتال بين القبائل ومطالبتهم بالثأر وما يرافق أهل القاتل من خوف وعدم الاستقرار وتوجس وصولاً إلى “الجلو ” وهو رحيل أهل القاتل عن ديار القبيلة، هكذا تقتضي الأعراف حسب منطق الحياة في بيئية اجتماعية صاغت قوانينها حتى صارت أعتى من أن تنقضها محكمة مدنيّة أو نصّ قانون وضعيّ.

وكما كلّ نهاية قصص الحبّ البدوية العربية المشابهة، مأساوية الخواتم، تلك الحكايا التي حفظنا متونها وهوامشها، القصص التي اتشحت بالعنفوان والكرامة وارتبطت بالشهامة وعزة النفس، ليغدو “العاشق” المطلوب للثأر فيها مضرب المثل في أخلاقه وعفته، تسير حكاية هدّار وترف ضمن هذا السياق، وما أكثر تلك الحكايات والتي تشكل المهاد السردي للبيئة في ذلك الحيز الجغرافي المضطرب الحدود على نهر بدا شبه جافٍ.

يعزز السارد متون نصوصه بقصص سحرية فانتازية مشابهة لتتقاطع مع قصة هدّار في بعض الأحيان ويمتد المكان و يبتعد ليصل إلى كولن المدينة الألمانية ونهرها الراين الذي راح السارد يخبرهُ ويعقد صحبة معه كما خبر نهراً يعرفه في جزيرته شاخ على تلك الحكايا.

يحاول السارد دخول الغرف المغلقة من “أبوابها” الشفاهية، لكنّه مُعطّلاً حواسه إلى أبعد حدّ، خلا ما تمّ تداوله ” وهنا تقتضي أخلاقيات الفارس مُحاذرة الخدش، بما يرتبط بأخلاقيات المكان والناس، هو “الحرملك الاجتماعي القبلي ” وله ناره وجحيمه ومخاطر ولوج أبوابه الموصدة.  

بالتوازي يأتي الخطّ الدراميّ الثاني للكتاب من خلال البوح في سيرة المقاربة الذاتية لحياة عاشها السارد يحكي تفصيلاتها ويروي بعين ابن المكان المكتوي بنار الأحداث حيناً والمراقب الواعي أحياناً أخرى، وهو المحبّ لتلك الشخصيات السحريّة، أرواحها مازالت تملأ مشهد حياته بتواتر الحكايات واختلاف رواتها، يأخذ دور العرّاف حيناً فيصحح مجرى الأحداث أو يعطيها بُعداً مُستقبلياً حين يتنبّأ بالنتائج والنهايات، وحسب قوله:

” أروي حيواتهم كجزءٍ من سيرتي المتعثّرة بفعل علاقتها الحساسة الملتبسة بأناس مازالوا يملؤون المشهد..”

بهذا يفسر سرحانه المُبكر ليعمل على تأسيس سيرةٍ تستند على تاريخه البدويّ والمدنيّ

وهو يعي تماما ً أنّ لكلّ أحد تاريخه الشخصيّ وقصته تلك التي لا تشبه قصة أحد أخر..”  يأتي ذلك عبر ذاكرة تثير غبار الأسئلة، وتحاول عبر بوح جريء أن تُقاطع ما هو عام وانعكاسه على ما هو فرديّ ذاتيّ، بدأ السارد يعيه من خلال يُتمه المبكّر وعيشه في بيت الخؤولة، يفتح وعيه على القراءة فيقرأ ما يتسر من هدايا الصديقات من أدب عالمي ومن ثم انخراطه في تيّار سياسي بدأ من خلاله التبصر في مستقبل البلاد ويعمل مهنة لم يحبّها يوما.

يريد السارد أن تكون البداية – وإن اختلف موضعها-  في أول الحكاية أم في وسطها يبدأ من حيث سيرة الخلق من قبضة الوحل الأولى التي شكلت أجسادنا بعد المطر، مروراً بقصر الإله السومريّ “إنكي” الذي بنى بيته في أعماق البحار، ثم تتعرج الخطوط البيانية للبشر تتقاطع حيناً في نقاط ما وتفترق أحياناً كثيرةً عبر كائن أسمه ” الزمن ” يحكي بجرأة فطريّة عن بكريّة تجاربه الأولى حين يشتبك الخيال بالواقع فيغدو المتخيل واقعاً والواقع خيالاً، هو أقرب إلى جسّ الطفل في دهشةٍ إلى ما خفي من جسده، وما ترفق مع تلك اللحظة من فَرادة.

هو يبقى متأهباً ملتبساً في شخصين معاً، يسرد ما اجتهد بدويّ في ايجازه بعفويّةٍ فَطِنة “زلمه ضيعوه أهله وشافوه بعد يومين ” فهكذا يرى سيرة النبي يوسف، لكن أنّى للسارد إيجاز البدويّ.  

فقد استطاع نقل أحداث حكاية هدّار هذه الحكاية الصغيرة التي تأتي من عالمٍ كبيرٍ، يشغل السارد جزءاً منه، تلك الحكاية تعود لتظهر إلى الواجهة من جديد كلما قاربت نوازعها هواجس السارد، فهو يسعى دائما للقبض على متن الحكاية ويدور في أفلاكها، شانها شأن كلّ السرديات البدائية التي حفلت بها تلك البقعة الجغرافية من الأحداث الأسطورية والغرائية  يقاطعها مع الوقع حينا فتحكي عن “رجل تزوج جنيّة فملأت داره بالحنطة حتى فارت من الشبابيك” عن جزيرة تفور خيراتها من جيوب المسؤولين بينما الجدّة “خنسا” تتحّسر على “ولو ثلاثة أكياس طحين.. „. تلك السرديات دخلت أبواب المداولة في أمسيات الشعراء وسهرات البدو وعلى لسان القولين والربابة ذات الوتر الواحد المقدودِ من ذيل فرس.

تمتزج شخصيّة هدّار المطلوب للثأر من وآل البلاّش بشخصية السارد ” القرين” المطلوب بسبب مواقفه السياسية والوطنية أو ربما حالهُ كحالٍ أيّ مواطن مطلوب لجهة أمنية دونما سببٍ.

هدّار يُدمن ويتقن التخفي وهي حال المطلوب للثأر، لكنّه متسلح بكرامته وشجاعته، بينما السارد يسوقه ترحاله إلى وسط أوربا بحثاً عن فضاء آمنٍ، وهدّار كذلك يقترب من مضارب الأهل متخفياً، ومثله يفعل السادر بعد ثمانية أشهر من وصوله إلى ألمانيا مدفوعاً بشوقه / بشوقهما/ لمن يحب.

من الصفحات الأولى يبدو كتاب سلالة العجاج بعيداً مسطرة التجنيس أو التصنيف، هو فردٌ بذاتهِ وهو انتماء بيولوجيّ للبيئة وللمؤلف على حدّ سواء، تشتبك فيه القصة بالسرد الذاتي لتنتج نصاً إبداعياً مفتوحاً على التأويل بينما البطل الأول فيه حسب رأيي هو (اللغة) بمجازاتها وادهاش تركيبها وانتمائها الأمين للمكان.

من جهة أخرى تتجزأ الحكاية الرئيسة في الكتاب إلى مشاهد مترادفة متتالية متواترة حيناً ومتفرقة أحيانا أخرى لكنّها في الغالب تعود لتنتظم من جديد في حلقة دراميّةٍ واحدةٍ مشغولة بعناية تعطي انطباعاً بأنّها الأقرب إلى روح الرواية. 

كذلك يأتي الكتاب  في عدد من الفصول، قد تبدو للوهلة الأولى أنّها منفصلة، تختلف في مضمون سردها، لكنّها تتقاطع بطريقة أو بأخرى مع غيرها من الفصول السابقة، ومن ثم اللاحقة نقرأ منها (سيرة قتل، عن أزمنة شرسة، مدخل إلى السيرة الشخصيّة … ” عن هدّار وآل البلاّش وأنا”، في مديح الشجاعة، تبديد صورة الخوف، نهاية قمرين بدويين” ملابسات مقتل هدّار وسم البدو وترف ” المحطات والحواجز، شرك الحواجز، حين انتهيت غريباً  ..إلى غيرها من العناوين والتي كانت غالباً تحمل الإدهاش في تركيبها المجازي ومن خلال حواملها أو تضادّها لكن هذا التضاد عندما يأتي في متن النصّ يفضي إلى المزيد من شغف القراءة ومتعة الاكتشاف، فالمتتبع لخيوط النص سيرى أن  النهايات لا تقلّ إدهاشاً عن تركيب العناوين وعليه فهو “يغرق في بحر المجاز”  من خلال تجاور اللفظين مثلاً ” الطّارد والمطرود ، في مديح الذئب / ذئبي ، القلّة الكثيرة، والليّن – حامل سيف الماء وغيرها.

يقاطع السارد الأحداث على خطّ حياته الشخصية، لتصير سردية هدّار موازية لحياة السارد يقاطعها بين الحين والأخر بأحداث معاصرة سياسيّة وفكريّة وشخصيّة، يتخللها مواقف لشخصيات تربطها به علاقة فكريّة أدبيّة، يقابله في ذلك سير على خطين مكانيين أيضاً، ينقل الأحداث وأبطالها من الجزيرة السورية إلى ضفاف الراين في ألمانيا، حيث أجمل أنهار العالم يشدّ قوس ربابته ويستذكر نهراً شبه جافٍ، محققاً بذلك نبوءة العجوز التي قالت له يوماً “.. لتكن حقيبتك رفيقتك وفي متناول يدك، وأنت منذورٌ للرحيل أكثر مما أنت منذورٌ للموت، فلا تخف من الموت “

يترك السارد بابه موارباً للأصدقاء ليعودوا إلى حديقته الخلفية “ففيها الحيوانات الأليفة والشرسة، الشجاعة في الخسران، بالهزيمة.. تمتدح ورح الفارس وشعور الطريدة” في إشارة منه إلى ذاته الواعية القادرة على جمع الأضداد وتدجينها أو في المحصلة قبول الآخر على شكلهِ ومضمونه، ربما يؤنسنها في نصوصه يدجّنها حينا ويحتفي بشراستها، هو لا يريدها أن تكون كما يُريد، بل كما كُوّنت وفطرت عليه هي، فهو الأقرب إلى احترام الذئب بخصالهِ وسماته وسيرة وحشتهِ وروح العدوّ النبيلةِ فيه من الكلب بتملّقه.

يأتي كتاب سلالة العجاج كسيرة توثيقيةٍ بلغة حكائيهٍ ايحائية مشبعة بالتفاصيل، حيث استفاد الكاتب من المورث الشعبي بمختلف أشكاله، إن كان مثلاً شعبياً أو مقولة متداولة وهي كثيرة لا مجال لحصرها هنا أو لفظةً تحيل خصوصية ما في البيئة ” فالخربوش والمرياع، والبير ورشاه، والملفع، الربعة، الحدّار.. وغيرها الكثير في النص.

ويمكن للقارئ أن يقف مطولاً عند هذه التراكيب والمقولات يحللها ويقتفي رمزيتها فالوسم مثلا ” هو الطبع الدائم في الشيء أو العلامة الفارقة، والعجاج بما يرافقه من قلق وخوف وتشتت، وهدّار كصفة مرادفة للريح والغبار وغيرها، في حين يعمد الكاتب في بعض عناوينه الفرعية إلى ربط ” أنا ” كلاحقة في نهاية العنوان مما يعزز وجوده كفاعل في المتون.

من جهة أخرى يمكن أن تلحظ في مقطع قصير كم الألفاظ التي يسوقها الكاتب في تلك الصور“ .. كان يستحضر سلالات الغبار كلها، بمآثرها وقصصها كان الطريق من ناعور أذيال جبل سنجار…تلك المسافة بين البيوت تتناثر كقطع الوحل المشوي كصلصال على هيئة جدران والنوافذ/ الكوات عيون ذئاب“

يُذكر أنّ كتاب سلالة العجاج صدر الشهر الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

*محمد المطرود كاتب سوري مقيم في ألمانيا    

Exit mobile version