Site icon العربي الموحد الإخبارية

المتاهة البورمية

تعيش ميانمار، (بورما)، في متاهة من الانقسامات والحروب، ولا يمكن لشعبها حتى اليوم، التخلص من ثقل التاريخ القاسي. ويحاول الصحفي الإسباني كارلوس ساردينيا جالاتشي، أن يرسم خرائط هذه المتاهة، ويفهم أسباب الحروب الأهلية في هذه البلاد، بناء على علاقته الصحفية العميقة مع الصراعات في بورما.

بدأت ميانمار، في عام 2011، بانتقال ديمقراطي بلغ ذروته بعد أربع سنوات، عندما شهدت أول انتخابات حرة، بعد عقود من الحكم العسكري الاستبدادي، توجت بفوز ساحق لحزب أونج سان سو كي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام في 1991. ومع ذلك، حتى عندما كان المجتمع الدولي يحتفي بفجر جديد، كانت الحروب القديمة مستعرة في المناطق الحدودية الشمالية. وظهرت أزمة في ولاية أراكان الغربية، حيث كثف النظام قمعه لمجتمع الروهينجا المسلم الضعيف. وبحلول عام 2017، تصاعد الصراع إلى هجوم عسكري ضد الروهينجا، ما أثار أزمة لاجئين تعد من بين الأشد في عصرنا الراهن، حيث فر أكثر من 750 ألفاً منهم من ديارهم إلى بنجلاديش المجاورة.

 ويقدم الصحفي كارلوس ساردينيا جالاتشي في هذا الكتاب (صادر عن دار فيرسو للنشر في مارس/ آذار 2020 باللغة الإنجليزية ضمن 352 صفحة) قصة البلاد، إذ يشير إلى أنه لطالما عاشت بورما في حالة من اللاتوازن بين الجماعات العرقية والديانات المتعددة. ويعاين الجذور العميقة وراء الانقسامات العرقية التي تعود إلى ما قبل الفترة الاستعمارية، والتي انفجرت بشكل صادم في الآونة الأخيرة.

 ويعيد هذا الكتاب إنتاج الطريقة التي تناول بها المؤلف بورما على مر السنين، كصحفي يغطي التطورات المعاصرة، ولكن غالباً ما يتم تحويله إلى دراسة الماضي في محاولة للعثور على أدلة على ألغازه الحالية. يحاول المؤلف تقديم إحساس بكيفية رؤية الأشخاص المختلفين للأشياء من داخل المتاهة، من خلال إعطاء صوت للأشخاص الذين قابلهم على مر السنين، ورؤية عامة للقوى التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي شكّلتها.

 يغطي الجزء الأول الفترة بين بداية الانفتاح الديمقراطي في 2011 وانتخابات 2015، التي فازت فيها الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بأغلبية ساحقة. كان 2011 نقطة تحول دراماتيكية في تاريخ البلاد الحديث، والذي بدا من نواح كثيرة أنه بداية جديدة لبلد عانى من عدة بدايات خاطئة منذ استقلاله في 1948. لقد كانت فترة بدت فيها سرعة التاريخ متسارعة بعد عقود من الركود الواضح في ظل الدكتاتورية العسكرية. وخلال هذه الفترة، تم العثور على الأسباب المباشرة للتطهير العرقي للروهينجا، وكذلك استئناف الحرب في ولاية كاشين، أو ظهور القومية البوذية المتطرفة، على الرغم من جذورها التاريخية العميقة بالطبع.

 وفي الجزء الثاني يعتمد المؤلف في الأغلب على مصادر ثانوية في محاولة لشرح تاريخ البلد الذي نعرفه باسم بورما، من أجل إلقاء الضوء على كيفية تأثير ذلك الماضي في الحاضر، وكذلك كيف تم تفسيره، وغالباً ما يتم التلاعب به، لأغراض سياسية حالية.

 ويتناول الجزء الثالث السرد المتبع في الجزء الأول، والذي يغطي الفترة من أواخر عام 2015 إلى عام 2019. وخلال هذا الوقت، بينما كانت أونج سان سو كي، والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في السلطة، استمرت الحرب في ولاية كاشين، وعانى الروهينجا من حملة وحشية من التطهير العرقي على يد الجيش، ما دفع أغلبيتهم للجوء إلى بنجلاديش المجاورة.

 بداية التغيرات

 يشير الكاتب في البداية إلى أنه «في عام 1989، غيّر المجلس العسكري الحاكم في بورما الاسم الرسمي للبلاد، وكذلك العديد من المناطق والمدن، وأعادها إلى أسمائها القديمة باللغة البورمية الأدبية. ومن خلال تعديل قانون التعبيرات، تم تغيير كل من «بورما» و«بورمي» إلى «ميانمار»، وأثر التغيير في لغات أخرى غير البورمية، حيث كان «ميانمار» هو الاسم الرسمي للبلاد بلغة الأغلبية البورمية. وكان أحد التفسيرات أن «بورما» فرضتها القوة الاستعمارية البريطانية. لكن هذا لم يكن صحيحاً تماماً، لأن «بورما» هي مجرد ترجمة للكلمة الأقل رسمية للبلد في بورما، وليس اسماً جديداً يفرضه الحاكم الاستعماري، كما هو الحال، على سبيل المثال، في الفلبين، حيث هو اسم جديد تماماً صاغه الإسبان تكريماً للملك الفاتح فيليب الثاني. وفي الواقع، تحمل كلمتي «بورما» و«ميانمار» المعنى نفسها تماماً، ومطالبة المتحدثين باللغات الأخرى باستخدام واحدة بدلاً من الأخرى هو ما يعادل مطالبة غير الناطقين بالألمانية باستخدام «دويتشلاند» بدلاً من ألمانيا. وقبلت الأمم المتحدة وبعض الحكومات التغيير، لكن العديد من الدول الأخرى ووسائل الإعلام الدولية استمرت في تسمية البلاد ب«بورما». وكان هناك وقت كان فيه اختيار أحد المصطلحات أو الآخر له دلالات سياسية، حيث عارضت أونج سان سو كي التغيير. لكن «ميانمار» أصبحت مقبولة دولياً منذ الانتقال في عام 2012».

 وشهد العقد الماضي الكثير من التغييرات السياسية والاجتماعية العميقة في البلاد. فمنذ عام 2011، حل المجلس العسكري الذي حكم لعقود من الزمن نفسه، وخفف الجيش قبضته المشددة على السلطة، وشرع في انتقال مُدار بعناية إلى نظام ديمقراطي زائف. ونتيجة لذلك، ومع الحفاظ على سيطرة كبيرة على جهاز الدولة، سمح الجيش بدرجة من الانفتاح أدت إلى حريات جديدة لم يتمتع بها البورميون منذ عقود. لكن يتساءل المؤلف: «كيف يمكننا فهم العنف والاضطراب في بورما خلال معظم العقد الماضي، ولا سيما التطهير العرقي الوحشي للروهينجا، وهم أقلية مسلمة تعيش في غربي البلاد»؟

 اندلاع العنف الطائفي

 يتحدث المؤلف عن علاقته بهذه البلاد قائلاً: «زرت البلد لأول مرة في أواخر عام 2010، قبل بضعة أشهر فقط ،من تغيير النظام، وسافرت هناك كثيراً كصحفي في السنوات اللاحقة لتغطية التحولات التي أحدثتها المرحلة الانتقالية. لقد أمضيت وقتاً ممتعاً خلال العمل في البلاد، وكنت قادراً على زيارة مناطق خارج الحدود حتى الآن، وإجراء مقابلات مع الأشخاص الذين كانوا صامتين، أو صامتين لعقود. وفي بعض الأحيان، كانت تغطيات مثل التغييرات تمنح المرء شعوراً قوياً بالاكتشاف، لكن هذه الإثارة غالباً ما كانت تخفف من الوقائع الباردة لأمة استمرت في حالة اضطراب: الحرب، والصراع القاتل بين الطوائف، والكراهية عميقة الجذور التي يتم التعبير عنها علانية، وتم تجسيدها في النهاية بأكثر الطرق وحشية».

 ويضيف: «كان هذا أكثر وضوحاً في عام 2012، عندما اندلع العنف الطائفي في ولاية أراكان الفقيرة، في غربي البلاد. كان الصراع بين مجتمع الروهينجا وأغلبية الولاية البوذية راخين. قُتل العشرات، وربما المئات. وسويت أحياء بأكملها بالأرض؛ وخسر عشرات الآلاف منازلهم بحثاً عن ملاذ في مخيمات النازحين. لقد تحمل الروهينجا الذين تعرضوا للقمع الشديد من قبل الجيش لعقود، وطأة العنف، وسرعان ما ظهر أن قوات الأمن انحازت في كثير من الأحيان إلى جانب الحشود التي تهاجمهم. ومن الواضح أن الروهينجا كانوا الضحايا الرئيسيين، لكن لم يكن هذا هو الحال بالنسبة للكثيرين في بورما. هناك تصور واسع النطاق في البلاد بأن الروهينجا يشكلون تهديداً خارجياً يجب احتواؤه بأي ثمن. وفي السنوات التي أعقبت عام 2012، ازدادت المشاعر المعادية للروهينجا في جميع أنحاء البلاد، وصعدت الحكومة بشكل كبير من سياسات الإقصاء والفصل العنصري التي فرضتها على مدى عقود. وفي عام 2017، بلغ التطهير العرقي العنيف ذروته لأكثر من ثلاثة أخماس سكان الروهينجا من قبل الجيش البورمي».

وقال: «كانت صدمة لي عندما استفسرت عن الأزمة في أراكان، ووجدت بشكل شبه ثابت أن أعضاء الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية يشاركون الافتراضات نفسها حول الروهينجا مثل القوميين الراخين والمسؤولين الحكوميين، وبكل المؤشرات، شرائح كبيرة من المجتمع البورمي».

 مفارقات

أصبح فهم جذور هذه الأفكار المسبقة نوعاً من الهوس بالنسبة للكاتب، ويتساءل: كيف يمكن للأشخاص الذين قدموا تضحيات كبيرة باسم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية أن يحتضنوا مثل هذه الكراهية ضد أقلية ضعيفة ومضطهدة؟ لماذا أصبحت أقلية محاصرة مثل الروهينجا مكروهة، بل وتخشى الكثير من الناس في البلاد؟ وربما الأهم من ذلك، كيف تم تأويل الهويات القومية والعرقية في البلاد؟

ويقول: «بالطبع، فهم العنف والكراهية العنصرية لا يعني التغاضي عنهما، أو تبريرهما. على العكس من ذلك، أعتقد أن فهم مصادر هذه الكراهية والوحشية التي قد تؤدي إليها هو مسعى أخلاقي وشرط مسبق لمكافحتها. وفي بعض الأحيان يكون من المستحيل فهم الوحشية التي تؤدي إليها تلك الكراهية العرقية. فالقسوة التي عانى منها الكثير من الروهينجا تتحدى اللغة والمنطق، لأنها تأتي من أحلك أعماق النفس البشرية. لكن مثل هذه الكراهية والوحشية لا يتم تفعيلها وجعلها «مسموحاً بها» إلا في مجموعة معينة من الظروف. وإذا كان لدينا أي أمل في فهم مثل هذا السلوك، فنحن بحاجة إلى التحقيق في تلك الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والنفسية. وللعثور على إجابات لجميع هذه الأسئلة، من الضروري النظر إلى ما وراء أراكان، إلى صراعات أخرى في بورما قد تبدو للوهلة الأولى منفصلة عما حدث هناك».

 ويذكر: «عندما كانت الموجة الأولى من العنف الطائفي تجتاح أراكان في يونيو/ حزيران 2012، تصادف أنني كنت على بعد عدة مئات من الكيلومترات إلى الشمال الشرقي، في تلال ولاية كاشين. كنت في المنطقة الواقعة على طول الحدود الصينية التي يسيطر عليها جيش استقلال كاشين، وهي جماعة مسلحة عرقية قومية كانت تقاتل الجيش البورمي (المعروف باسم تاتماداو) بشكل متقطع لمدة خمسة عقود من أجل تقرير المصير لشعب كاشين، مجموعة عرقية مسيحية في الأغلب. وقبل عام واحد، تم كسر وقف إطلاق النار المحفوف بالمخاطر بين الجيشين والذي استمر سبعة عشر عاماً، وعادت الدولة إلى الحرب مرة أخرى. كنت سافرت إلى هناك لتغطية الصراع الذي طال أمده، والذي أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من منازلهم. كان الكاشين مضيافين، وبذلوا جهوداً كبيرة لشرح سبب رغبتهم في الاستقلال، أو على الأقل الحكم الذاتي، لأرضهم في كاشين، ولماذا لا يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى الأمة نفسها مثل البورميين – الأكثر عدداً والمجموعة العرقية المهيمنة في البلاد».

 تاريخ من الانقسامات

«طوال تاريخ بورما القصير كدولة قومية مستقلة، حارب كثيرون آخرون هيمنة بورما. لقد خاضت قبائل شان، وكارين، ووا، والمون، والكاريني، والتشن، والراخين، والروهينجا أنفسهم – تقريباً كل المجموعات العرقية في البلاد – تمرداً مسلحاً في وقت ما، وكان البعض لا يزال نشطاً أثناء الانتقال. ونتيجة لذلك، فإن مناطق شاسعة من الأراضي الحدودية للبلاد خارجة عن سيطرة الدولة المركزية. وفي بداية الفترة الانتقالية، بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال، بدا مشروع بناء دولة بورمية كأنه فشل إلى حد كبير. وبعد عام واحد، في عام 2013، اندلعت موجة جديدة من العنف الطائفي، هذه المرة في سهول وسط بورما. حيث هاجمت حشود بوذية غاضبة الأحياء المسلمة في العديد من البلدات والمدن. ولم يكن العنف موجهاً إلى الروهينجا – وهي مجموعة لا تنتمي إليها الأغلبية العظمى من المسلمين خارج أراكان – ولكن كان موجهاً ضد المسلمين بشكل عام، سواء بسبب دينهم، أو عدم اعتبارهم بورميين. وقد حرض الرهبان البوذيون المتطرفون على العنف جزئياً، وأججوا نوعاً من القومية البغيضة، من خلال نشر مجموعة من النظريات المشوهة عن خطر وجود مؤامرة إسلامية للسيطرة على البلاد. وكان هؤلاء الرهبان المتطرفون في طليعة سلسلة متعاقبة من الحركات القومية المتطرفة التي لعبت دوراً بارزاً في السياسة البورمية خلال الفترة الانتقالية، حيث فرضت إلى حد كبير شروط النقاش العام».

 تشكل هذه القضايا – محنة الروهينجا، والحروب في الأراضي الحدودية (خاصة التي تشمل كاشين)، والتطرف البوذي القاتل أحياناً الذي ينشر معايير ضيقة جداً حول من ينتمي إلى البلد – الخيوط الرئيسية التي يتبعها المؤلف في هذا الكتاب. ويوضح أنه عادة ما تم تحليل هذه المشكلات الثلاث بشكل منفصل، أو تم فهم العنف ضد المسلمين في وسط بورما على أنه مجرد امتداد للعنف ضد الروهينجا في أراكان – وفي حين أن لكل منها ديناميكيتها وتاريخها الخاصين، فإن الظواهر الثلاث لا يمكن أن تكون مفصولة تماماً. فهي مترابطة من نواح كثيرة، وغالباً ما تغذي بعضها بعضاً. وكلها تتعلق بمفاهيم الانتماء والقومية، والطرق التي شكلت بها هذه القوى دولة في حالة حرب دائمة مع نفسها.

 ويختم بالقول: «يبدو لي أن بورما، مثل العديد من البلدان الأخرى، محاصرة في متاهة خاصة بها، متاهة من الحروب، والأوهام الخطيرة، والمظالم التي لم تتم معالجتها، والكراهية الغاضبة، وهياكل السلطة التي تترك معظم سكانها فقراء بكل معنى الكلمة تقريباً. ويحاول الشعب البورمي إيجاد طريقه للخروج من تلك المتاهة، وإذا بدا أنهم غير قادرين على إيجاد المخرج، فذلك على وجه التحديد لأن العديد منهم محاصرون في الداخل، ويمكنه رؤية جدرانه المقيدة فقط، وليس شكله العام».

Exit mobile version